نفيه التأويل التفصيلي عن السلف    

 

أما نفيه التأويل التفصيلي عن الصحابة والسلف فقد ذكره في أكثر من كتاب، فقال في فتاويه بعد كلام ما نصه «فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأوَّل شيئًا من ءايات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف» اهـ.ـ

 

   

 

نقول: قال الله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ءال عمران] .ـ أخبرنا الله تعالى في هذه الآية أن القرءان فيه ءايات محكمات هنَّ أمّ الكتاب أي أصل الكتاب، وأن فيه ءايات متشابهات تردّ لفهمها إلى الآيات المحكمات.ـ

 

والآيات المحكمة: هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجهًا واحدًا، أو ما عُرف بوضوح المعنى المراد منه كقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى] وقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] وقولِهِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [سورة مريم] .ـ وأما المتشابه: فهو ما لم تتضح دلالته، أو يحتمل أوجهًا عديدة واحتيج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، كقوله تعالى {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه] .ـ وقوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [سورة ءال عمران] يحتمل أن يكون ابتداءً، ويحتمل أن يكون معطوفًا على لفظ الجلالة، فعلى الأول المراد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه كوجبة القيامة وخروج الدجال ونحو ذلك، فإنه لا يعلم متى وقوع ذلك أحد إلا الله؛ وعلى الثاني: المراد بالمتشابه ما لم تتضح دلالته من الآيات أو يحتمل أوجهًا عديدة من حيث اللغة مع الحاجة إلى إعمال الفكر ليحمل على الوجه المطابق كآية {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه]؛ فعلى هذا القول يكون الراسخون في العلم داخلين في الاستثناء، ويؤيد هذا ما رواه مجاهد عن ابن عباس أنه قال «أنا ممن يعلم تأويله».ـ

 

   

 

قال القشيري في التذكرة الشرقية «وأما قول الله عزّ وجلّ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة ءال عمران] إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن المشركين سألوا النبي عن الساعة أيان مرساها ومتى وقوعها، فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب، فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله عزّ وجلّ ولهذا قال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [سورة الأعراف] أي هل ينظرون إلا قيام الساعة. وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح في النبوات، وأن النبي ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى، ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم، أليس الله يقول {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء] فإذًا على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} إذ لم يكن معلومًا عندهم، وإلا فأين هذا البيان؛ وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعى أنه مما لا تعلمه العرب لما كان ذلك الشىء عربيًّا، فما قول في مقال مآله إلى تكذيب الرب سبحانه.ـ ثم كان النبي يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فلو كان في كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شىء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، لكان للقوم أن يقولوا بيّن لنا أوَّلا من تدعونا إليه وما الذي تقول، فإن الإيمان بما لا يعلم أصله غير متأت، ونسبة النبي إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، والغرض أن يستبين من معه مُسْكَةٌ من العقل أن قول من يقول «استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدَم صفة ذاتية لا يعقل معناها» تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل؛ وقد وضح الحق لذي عينين، وليت شعري هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا الإنكار في كل شىء وفي كل ءاية أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى، فإن امتنع من التأويل أصلاً فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من ءاية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكلام – إلا ما كان نحو قوله تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الانعام] – لأن ثَمَّ أشياء لا بدّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع – بزعمه -. وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وبصفاته فلا تأويل فيه. فهذا مصير منه إلى أنّ ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يعلم وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم؛ وسرّ الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يُدَلّسون ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا. فليقل المحقق هذا كلام لا بد من استبيان، قولكم نجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه تناقض، إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [سورة القلم] هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر، وإن لم يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر، ألست قد تركتَ الظاهر وعلمت تقدس الربّ تعالى عما يوهم الظاهر، فكيف يكون أخذًا بالظاهر؟ وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلاً، فهو حكم بأنها ملغاة، وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدَر وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب، وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد، فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق، وقد قيل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [سورة آل عمران] : فكأنه قال: والراسخون في العلم أيضًا يعلمونه ويقولون ءامنا به. فإن الإيمان بالشىء إنما يتصور بعد العلم، أما ما لا يعلم فالإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس: «أنا من الراسخين في العلم».اهـ.

 

     

 

فتبين أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل، وهو محجوج بقوله لابن عباس «اللهم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب» .ـ

 

   

 

هذا وقد شدّد الحافظ ابن الجوزي الفقيه الحنبلي وهو حرب على حنابلة المجسمة وما أكثرهم في كتابه «المجالس» النكيرَ والتشنيع على من يمنع التأويل ووسّع القول في ذلك، فمما ورد فيه: «وكيف يمكن أن يقال إن السلف ما استعملوا التأويل وقد ورد في الصحيح عن سيد الكونين أنه قدّم له ابن عباس وضوءه فقال «من فعل هذا» فقال: قلت: أنا يا رسول الله، فقال «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» . فلا يخلو إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه، فلا بدّ أن تقول أراد الدعاء له لا دعاءً عليه، ولو كان التأويل محظورًا لكان هذا دعاءً عليه لا له. ثم أقول: لا يخلو إما أن تقول: إن دعاء الرسول ليس مستجابًا فليس بصحيح، وإن قلت: إنه مستجاب فقد تركت مذهبك، وبَطَل قولك: إنهم ما كانوا يقولون بالتأويل، وكيف والله يقول {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [سورة آل عمران] وقال {الم} [سورة البقرة] أنا الله أعلم، و{كهيعص} [سورة مريم] الكاف من كافي،، والهاء من هادي، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، إلى غير ذلك من المتشابه».اهـ.ـ