قوله بنسبة الحد لذات لله تعالى    

 

وأما إثباته الحد لله الذي نفاه الطحاوي في كتابه الذي سماه "ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني" صاحبيه أي وغيرهم عن الله تعالى بقوله "تعالى عن الحدود والغايات"، فهو ما نقله ابن تيمية في كتابه الموافقة عن أبي سعيد الدارمي المجسم موافقًا له فقال ما نصه "وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدُّوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوا ذلك إذا أحزن الصبي شيء يرفع يده إلى ربه ويدعوه في السماء دون ما سواها وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية" اهـ

 

     

 

وقال في الموافقة عن أبي سعيد الدارمي المجسم ما نصه "والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد ويكل علم ذلك إلى الله، ولمكانه أيضًا حد وهو على عرشه فوق سماواته، فهذان حدان اثنان" اهـ، ثم قال فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد، ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد ءايات الله ووافقه على ذلك

 

   

 

وقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه "قد دل الكتاب والسنة على معنى ذلك كما تقدم احتجاج الإمام احمد بالقرآن مما يدل على ان الله له حد يتميز به عن المخلوقات"..  وقال فيه أيضًا ما نصه "وذلك ل ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حدُّ يعلمه هو لا يعلمه غيره".. فهو يعتقد أن الله متحيز في جهة فوق العالم، تعالى الله عن ذلك، يقول ابن تيمية في كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه "والبارىء سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة" اهـ

 

       

 

والعجب من ابن تيمية في قوله المذكور الموهم أن المسلمين والكافرين اتفقوا وأجمعوا على أن الله له حد وقد نقل أبو الفضل التميمي رئيس الحنابلة عن الإمام أحمد أنه قال "والله تعالى لا يلحقه تغير ولا تبدل ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش، وكان ينكر- الإمام أحمد – على من يقول إن الله في كل مكان بذاته لأن الأمكنة كلها محدودة" اهـ

 

   

 

فالله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون ذا حد ونهاية كسائر الأجسام لأنها محدودة فالعرش الذي هو أكبر الأجرام محدود. وكذا الذرة محدودة، لأن الفرق بينهما من حيث كثرة الأجزاء وقلتها، والذرة عند أهل اللغة و المتكلمين تطلق على النملة الصغيرة الحمراء، قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي ما نصه الذر صغار النمل مائة منهما زنة حبة شعير، وقيل الذرة ما ليس لها وزن، ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة، قالوا الذر النمل الأحمر الصغير الواحدة ذرة..

 

فالعرش أجزاؤه كثيرة، و الذرة أجزاؤها قليلة، فلا يتوهم متوهم غافل عن تنزيه الله تعالى أن مرادهم بنفي المحدودية عن الله أنه شئ لا تحصي أجزاؤه كالعرش، و أنه ليس صغيرا قليل الأجزاء بحيث يدخل تحت الحصر، فينبغي الاهتمام ببيان هذه العبارة لطلاب العلم علي الوجه الذي ينفي عنهم توهم المعني الفاسد المذكور، لأنه قد يتوهم بعض الجهال اذا قيل الله ليس له حد أو ليس بمحدود أن معناه جرم كبير، و اعتقاد الجرم في الله كفر، فمن اعتقده جرما صغيرا أو اعتقده جرما كبيرا كالعرش أو أوسع منه فهو غير عارف بربه فالله تعالي منزه عن الحدود، أي: لا يجوز عليه عقلا و لا شرعا أن يكون له حد، و لا يجوز أن يقال ان له حدا لا نعلمه بل هو يعلمه كما قال بعض المجسمة من الحنابلة من أسلاف ابن تيمية، و ذلك لأن المحدود يحتاج الي من حده، و المحتاج الي غيره فهو محدث، و المحدث لا يكون الها لأن الاله من شرطه الأزلية و القدم و يكفي لنفي الحد و الحجم عن الله تعالي من حيث النص الشرعي قوله تعالي (ليس كمثله شيء) لأنه لو كان حجما لكان له أمثال لا تحصي و هذا من الأوليات في مفهوم هذه الأية، لأن الشئ ذكر في الآية في معرض النفي فيشمل كل ما سواه من حجم كثيف و حجم لطيف، فقول مشبهة العصر (الوهابية): ان معني الآية ليس له مثل فيما نعرفه، زيغ من القول لا يلتفت إليه...

 

قال الامام أبوالقاسم الأنصاري النيسابوري شارح كتاب الارشاد لامام الحرمين ما نصه "فصل في نفي الحد و النهاية" اعلم أن القديم سبحانه لا يتناهي في ذلك علي معني نفي الجهة و الحد عنه، و لا يتناهي في وجوده علي معني نفي الأولية عنه فانه أزلي أبدي صمدي، و كذلك صفات ذاته لا تتناهي في ذاتها و وجودها و متعلقاتها ان كان لها تعلق، و معني قولنا: لا تتناهي في الذات قيامها بذات لا نهاية له و لا حد و لا منقطع و لا حيث، و قولنا لا تتناهي في الوجود اشارة الي أزليتها و وجوب بقائها و أنها متعلقة بما لا يتناهي كالمعلومات و المقدورات و المخبرات. ثم قال "و أما الجوهر فهو متناه في الوجود و الذات لأنه لا يشغل الي حيزا له حكم النهاية و هو حادث له مفتتح و يجوز عدمه. و العرض متناه في الذات من حيث الحكم علي معني أنه لا ينبسط علي محلين، و متناه في الوجود علي معني أنه لا يبقي زمانين، و يتناهي في تعلقه فانه لا يتعلق بأكثر من واحد أما المجسمة فانهم أثبتوا للقديم سبحانه الحد و النهاية، فمنهم من أثبت له النهايات من ست جهات، و منهم من أثبتها من جهة واحدة و هي جهة تحت، و منهم من لا يطلق عليه النهاية، و اختلفوا في لفظ المحدود فمنهم من أثبته و منهم من منعه و أثب الحد، و قد بينا أن اثبات النهاية من جهة واحدة توجب اثباتها من جميع الجهات، و لأن النهاية و الانقطاع من الجهة الواحدة تقدح في العظمة، بدليل أنه لو لم يتناه لكان أعظم مما كان، فلما تناهي فقد صغر، و يجب نفي الصغر عنه كما وجب اثبات العظمة له، يوضح ما قلناه أنهم قالوا انما منعنا كونه وسط العالم لأنه يوجب اتصافه بالصغر، فاثبات النهاية من جانب يفضي الي النهاية من جميع الجوانب، فقد تحقق اذا بنفي النهاية و الحد عنه استحالة الاتصال و الانفصال و المحاذاة عليه لاستحالة الحجمية و الجثة عليه، بل هو عظيم الذات لانتقاء النهايات و الصغر عنه لا لجسامة و لا لصورة و شَبَح" أ. هـ

 

ثم قال "فصل في معني العظمة و العلو و الكبرياء و الفوقية: أجمع المسلمون علي أن الله تعالى عظيم و أعظم من كل عظيم، و معني العظمة و العلو و العزة و الرفعة، و الفوقية واحد و هو استحقاق نعوت الجلال و صفات التعالي علي وصف الكمال و ذلك تقدسه عن مشابهة الخلوقين، و تنزهه عن سمات المحدثين و عن الحاجة و النقص، و اتصافه بصفات الالهية كالقدرة الشاملة للمقدورات، و الارادة النافذة في المرادات، و العلم المحيط بجميع المعلومات، و الجود البسيط، و الرحمة الواسعة، و النعمة السابغة، و السمع و البصر و القول القديم، و الطول العميم و الوجه و اليد و البقاء و المجد" اهـ

 

و أما ما نقله ابن تيمية عن بعض السلف أنه قال بالحد لله فهو لم يثبت اسنادا، و لو صح فهو نقل عن فرد من أتباع التابعين فليس فيه حجة و انما الحجة بكلام الله و كلام الرسول الثابت الصحيح عنه باسناد خال عن مختلف فيه، كما شرط ذلك الحافظ ابن حجر و غيره لأحاديث الصفات. و من أعجب العجاب قوله: ان من نفي الحد عن الله من الأئمة يعني الحد المعلوم لنا، و من أثبته يحمل كلامه علي أنه أراد حدا يعلمه الله لا يعلمه غيره و أما استدلاله بما ورد أن رسول الله قال لوالد عمران بن حصين "يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ " قال: سبعة، ستة في الأرض و واحدا في السماء، قال "فأيهم تعد لرغبتك و رهبتك"، قال "الذي في السماء"، فهو لم يرد باسناد يثبت به الحديث في الصفات فلا حجة في ذلك و كذلك استدلاله لاثبات الحد لله في السماء برفع الأيدي اليها للدعاء، فانه لا يدل علي أن الله متحيز في جهة فوق، كما أن حديث مسلم أنه لما استسقي وجه يديه الي أسفل، لا يدل علي أن الله في جهة تحت، فلا حجة في هذا و لا في هذا لاثبات جهة فوق و لا جهة تحت لله تعالي و لفظ الحديث في صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي استسقي فأشار بظهر كفيه الي السماء. و روي أبوداود و ابن حبان في صحيحه أن رسول الله استسقي عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء قائما يدعو يستسقي رافعا كفيه قبل و جهه لا يجاوز بهما رأسه..

 

قال الكوثري في تعليقه علي السيف الصقيل ما نصه "قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس المحفوظ في ظاهرية دمشق في ضمن المجلد رقم 25 من الكواكب الدراري – و هذا الكتاب مخبأة و وكر لكتبهم في التجسيم و قد بينت ذلك فيما علقته علي المصعد الأحمد (ص 31) (فمن المعلوم أن الكتاب و السنة و الاجماع لن ينطق بأن الأجسام كلها محدثة و أن الله ليس بجسم، و لا قال ذلك امام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة و لا عن الشريعة" و قال في موضع آخر منه "قلتم ليس هو بجسم، و لاجوهر و لا متحيز و لا في جهة و لا يشار اليه بحس و لا يتميز منه شئ و عبرتم عن ذلك بأنه تعالي ليس بمنقسم و لا مركب و أنه لا حد له و لا غاية، تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد و قدر أو يكون له قدر لا يتناهي… فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب و لا سنة" ا هـ و في ذلك عبر للمعتبر، و هل يتصور لمارق أن يكون أصرح من هذا بين قوم مسلمين؟ ". انتهي كلام الكوثري

 

   

 

هذا و قد ثبت في النقل عن أبي حنيفة و غيره عمن قبله و هو الامام زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما في رسالته المشهورة بالصحيفة السجادية نفي الحد عن الله، فقد ذكر المحدث الحافظ محمد مرتضي الزبيدي شارح القاموس في شرح احياء علوم الدين هذه الصحيفة باسناد متصل منه الي زين العابدين قوله "أنت الله الذي لا تحد فتكون محدودا". أي: فكيف تكون محدودا، و قوله "لا يحيط به مكان". فقوله فتكون بالنصب مرتبط بالنفي السابق، و لا يجوز أن يقرأ برفع النون لأنه يلزم منه تناقض، و هذا كقوله تعالي "لا يقضي عليهم فيموتوا" (فاطر: 36). فيموتوا منصوب بأن مضمة و قول الامام علي زين العابدين "أنت الله الذي لا تحد" صريح في أن الله تعالى لا يجوز عليه أن يكون محدودا، ليس له حد في علمه و لا في علم الخلق فأين ما ادعاه من اتفاق كلمة المسلمين علي اثبات الحد لله، و بقية أئمة السلف علي ما كانوا عليه من نفي الحد عن الله، بدليل قول الطحاوي السابق، فانه أورد ذلك علي أنه مذهب السلف، و هؤلاء الأربعة من أئمة السلف المشاهير، و انما خص أباحنيفة و صاحبيه بالذكر لشهرتهم، و لأنه سبك عبارة العقيدة علي حسب أسلوبهم، و هو مذهب كل السلف كما أشعر بذلك قول الطحاوي "ذكر بيان عقيدة أهل السنة و الجماعة" فقد بان تمويه ابن تيمية و انكشف و هذا دأبه، الرأي الذي يعجبه في الاعتقاد ينسبه الي السلف ليوهم بذلك ضعفاء العقول و الأفهام أن مذهبه مذهب السلف، و هيهات هيهات و قد نقل الاجماع علي نفي الحد الامام أبومنصور البغدادي في الفرق بين الفرق و نصه "و قالوا – أي أهل السنة و الجماعة – بنفي النهاية و الحد عن صانع العالم" أ. هـ

 

   

 

و قال الامام أبوحنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر ما نصه "و لا حد له و لا ضد له"... و قال الحافظ البيهقي في كتابه الأسماء و الصفات ما نصه "و ما تفرد به الكلبي و أمثاله يوجب الحد، و الحد يوجب الحدث لحاجة الحد الي حاد خصه به، و البارئ قديم لم يزل" أ. هـ

 

   

 

و قد كان ينفي الحد عن الله سبحانه و تعالى الامام الحافظ محمد بن حبان أبوحاتم البستي، كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني، و قال التاج السبكي ما نصه "و من ذلك قول بعض المجسمة في أبي حاتم بن حبان "لم يكن كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان لأنه أنكر الحد لله)، فيا ليت شعري من أحق بالاخراج؟ من يجعل ربه محدودا أو من ينزهه عن الجسمية؟ " ا هـ