أما قوله بنسبة الجهة و المكان لله فقد ذكره في كتابه منهاج السنة النبوية فقال ما نصه رادًا بزعمه على القول "لأنه -أي الله- ليس في جهة" وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل إنه في جهة كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه" اهـ
وقال في موضع ءاخر منه ما نصه "وإذا كان الخالق بائناً عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزاً بهذا الاعتبار، وإن أراد بالحيز امراً عدمياً فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه، فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزاً وقال: يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزاً فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه, وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع" اهـ
وقال رادًّا بزعمه على من يقول "لو كان الله فوق العرش لكان جسمًا" ونص كلامه "فقال لهم أهل الإثبات: معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا مداخل له، فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى" اهـ.. ثم قال بعد ذلك "وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى, ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم, فإذا أريد لثاني أن يقال كل جسم في جهة، وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم ءاخر، فمن قال: البارىء في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطىء، وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات" اهـ
وقال في موضع ءاخر من الكتاب ما نصه "وجمهور الخلف على أن الله فوق العالم, وإن كان أحدهم لا يلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم و يقواون بألسنتهم ربهم فوق" اهـ
وقال ايضا فيه ما نصه "وكذلك قوله: كل ما هو في جهة فهو محدَث" لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدَث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع: فمن الناس من يقول: قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذلك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذلك بطريق الأولى وإذا رد ذلك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين" اهـ
ويقول في الرسالة التدمرية ما نصه "فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلاوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات" اهـ
وقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه "والله تعالى قد أخبر عن فرعون أنه طلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى، فلو لم يكن موسى أخبره أن الله فوق لم يقصد ذلك، فإنه لو لم يكن مقرًّا به فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى عليه الصلاة والسلام" ا.هـ.. ثم قال "فموسى صدق محمدا في أن ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق. فالمقرون بذلك متبعون لموسى و لمحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون" اهـ وأمثال هذا كثير في كتابه المنهاج، اقتصرنا على ما أوردناه
قال الجلال الدواني في شرحه على العضدية ما نصه "ولابن تيمية أبي العباس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة ومبالغة في القدح في نفيها ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال هو معدوم أو يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده ونسب النافين إلى التعطيل" اهـ
فليعلم أن معتقد أهل السنة و الجماعة أن الله منزه عن التمكن في مكان لأن التمكن عبارة عن نفوذ بُعد في بُعد ءاخر متوهم أو متحقق يسمونه المكان، والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء و الله منزه عن الامتداد و المقدار لاستلزامه التجزي والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الازل فيلزم قدمُ الحيز أو لا فيكون محلا للحوادث وكلا ذلك مستحيل، وأضاً إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهياً أو يزيد عليه فيكون متجزئاً، وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة عُلو ولا سفل و لا غيرهما لانها إما حدود وأطراف للامكنة أو نفس للامكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء ثم إن بعض المجسمة إذا أثبت لهم برهان وجود تنزهه تعالى عن المكان يقول "جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله"..
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن أعلى منه قدراً يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفلَ منهم فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن، ثم الانبياء مستقرهم في الدنيا الأرض وفي الآخرة الجنة وهم أعلى قدراً من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلا على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم ثم الخلاء وهو هذا الفراغ عند أهل الحق يتناهى، ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل، وكذلك القول بأن وراء العالم أجراماً متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضاً، وإن أهل الحق لا يثثبتون هذا، بل يقولون: وراء العالم لا يوجد فراغ لا منتاه ولا أجرام لا متناهية، انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم، انتهى الخلاء والملاء. والملاء هو الجرم المتواصل فنسبة الجهة والمكان لله تعالى مختاف لقوله تعالى {ليس كمثله شيء} ومخالف لإجماع المسلمين الذي نقله الأستاذ عبد القاهر التميمي

قال أبو القاسم الزجاجي

وقال الشيخ شرف الدين بن التلمساني

قال الفقيه المتكلم المؤرخ الفخر بن المعلم القرشي الدمشقي

وقال الحافظ ابن حجر




قال أبو الثناء محمود بن زيد اللاَّمشي الحنفي الماتريدي

و أما استدلالهم علي تعيين جهة الفوق بحديث الجارية فقد قال بعض العلماء: ان الرواية الموافقة للأصول هي رواية مالك أن الرسول


و روي ابن حبان في صحيحه من حديث الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله ان أمي أوصلت أن يعتق عنها رقبة و عندي جارية سوداء قال "ادع بها" فجاءت فقال "من ربك؟" قالت: الله، قال "من أنا؟" قالت: رسول الله، قال: أعتقها فانها مؤمنة" فهذه الرواية أيضا موافقة للأصول، توافق رواية سؤال الملكين في القبر "من ربك"؟"
ثم ان رواية مسلم فيها مخالفة للأصول، فانه لا يحكم بالايمان و الاسلام لشخص يريد الدخول في الاسلام الا بالشهادتين كما نص علي ذلك علماء الاسلام، فالقول بأن الرسول


و أما ما احتج به ابن قيم الجوزية بما روي أن حسان ابن ثابت أنشد رسول الله


فالجواب: أن الحجاب يرجع الي الخلق لأنهم هم المحجوبون، و أصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي و المرئي، و المراد به فيها المنع من الرؤية، و يستحيل علي الله أن يكون نورا حسيا، أو يتصل بذاته نور حسي لأن النور الحسي مخلوق بدلالة قول الله تعالي {وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ} فأخبرنا أن الظلمة و النور كلاهما مجعول لله، أي: مخلوق: فاذا عرف هذا فما ورد من تسمية الله تعالي بالنور في حديث الأسماء فمعناه: المنير، أي: جاعل النور في السموات و الأرض، و كذلك قول الله تعالي {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ} فالحمد لله أن بصرنا معاشر أهل السنة و الجماعة لهذا التنزيه الموافق لما كان عليه الصحابة، فمن أدل دليل علي موافقتنا للصحابة في عدم اعتقادنا لما توهمه ظواهر بعض النصوص ما جاء عن ابن عباس باسناد صحيح موقوفا عليه و هو مرفوع حكما "تفكروا في كل شئ و لا تفكروا في ذات الله" فانه لو كان فهمه لتلك النصوص علي حسب الظواهر لم يكن للنهي عن التفكير في الذات معني، و لو كان الصواب ما تفهمه الوهابية من تلك النصوص لم يكن لقول السلف "أمروها كما جاءت بلا كيف" معنى.. و لم يكن لا نزعاج مالك حين سئل عن الاستواء حتي أخذته الرحضاء و اطراقه معنى..