كان الحجاز وما حوله من فلسطين والشام وبلاد الروم والعراق وأرض الفرس والهند وبلاد إفريقية وما والاها حين بُعث النبي





عرفتُ الشرَّ لا للشرّ لكن لتوقيه **** ومن لا يعَرف الشر من الناس يقع فيه
وقد أخبر رسول الله

وكان أناس يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة والملاحدة والثنوية من الفرس حتى أستفحل أمرهم، فأمر المهدي العلماء من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على هؤلاء فأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وأوضحوا الحق وخدموا الدين. وكان لخصماء الدين من الأسلحة ما لا يمكن مقابلته إلا بمثل أسنتهم، وجروا مع المسلمين على طريق التدرج في مراحل العداء، فلو تُرك الأمر وشأنه لكاد أن تتسرب شكوكهم إلى قلوب جماعة المسلمين فيطم الخطب. قال الإمام أبو حنيفة


ففي مثل هذه الظروف الحرجة غار الإمام أبو الحسن الأشعري على ما حل بالمسلمين من ضروب النكال وقام لنصرة السنة وقمع البدعة فوفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وقمع المعاندين وكسر تطرفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها فطبق في ذِكره الآفاق وملأ الدنيا بكتبه وكتب أصحابه في السنة والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة، وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب ومضى لسبيله وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ودانت السنة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية. وقد بعث ابن الباقلاني في جملة من بعث من أصحابه إلى البلاد أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى قيروان وبلاد المغرب فدان له أهل العلم من أئمة المغاربة وانتشر إلى صقلية والأندلس، وقام بنشر المذهب في الحجاز راوي الجامع الصحيح الحافظ أبو ذر الهروي وأخذ عنه من ارتحل إليه من علماء الآفاق.
وفي كلام المتقدمين من المتكلمين ما ينبغي أن يسترشد به القائمون بالدفاع عن الدين في كل عصر، ومن البيّن أن طرق الدفاع عن عقائد الإسلام ووسائل الوقاية عن تسرب الفساد إلى الأخلاق والأحكام مما يتجدد في كل عصر بتجدد أساليب الأخصام وهي في نفسها ثابتة عند ما حده الشرع لا تتبدل حقائقها، فيجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة لتتبع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر للمسلمين لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير ما دام راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن استحال واهناً واهياً، فيدرسون هذه الآراء والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية حتى إذا فوَّق متقصد سهاما منها نحو التعاليم الاسلامية من المعتقد وأحكام ردوها الى نحره ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مراتع خصبة بين المسلمين تنبت فيها بذور تلبيساتهم بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل وقانا الله شر ذلك. فتبين من ذلك أن نشأة علم الكلام كان ضرورة للرد على أهل البدع من المعتزلة والمجسمة وغيرهما من الفرق الضالة، وللرد على الفلاسفة والملاحدة والمخالفين لأهل الحق في المعتقد.
قال (5) القاضي أبو المعالي بن عبد الملك "من اعتقد أن السلف الصالح رضي الله عنهم نهوا عن معرفة الأصول وتجنبوها أو تغافلوا عنها وأهملوها فقد اعتقد فيهم عجزاً وأساء بهم ظنّاً لأنه يستحيل في العقل والدين عند كل من أنصف من نفسه أن الواحد منهم يتكلم في مسئلة العول وقضايا الجد وكمية الحدود وكيفية القصاص بفصول ويباهل عليها ويلاعن ويجافي فيها ويبالغ ويذكر في إزالة النجاسات عشرين دليلاً لنفسه وللمخالف ويشقق الشعر في النظر فيها ثم لا يعرف ربه الآمر خلْقَه بالتحليل والتحريم والمكلّف عباده للترك والتعظيم فهيهات أن يكون ذلك، وإنما أهملوا تحرير أدلته وإقرار أسئلته وأجوبته فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبينا محمداً صلوات الله عليه وسلامه فأيده بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة حتى أوضح الشريعة وبيَّنها وعلَّمهم مواقيتها وعينها فلم يترك لهم أصلاً من الأصول إلا بناه وشيده ولا حكماً من الأحكام إلا أوضحه ومهده لقوله سبحانه وتعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44} [سورة النحل]، فاطمأنت قلوب الصحابة لما عاينوا من عجائب الرسول

قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه "الفتاوى الحديثية" ما نصه (7) "الذي صرّح به أئمتنا أنه يجب على كل أحد وجوباً عينيّاً أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين أهل الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية والقيام بها للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها على تعلم ما يتعلق بها من علم الكلام أو ءالاته فيجب عيناً على من تأهل لذلك تعلمه للرد على المخالفين" اهـ. وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (8) "(ولم يكن شئ منه- أي علم الكلام - مألوفاً في العصر الأول) عند الصحابة والتابعين (فكان الخوض فيه بالكلية من البدع) والمنكرات (ولكن تغير الآن حكمه) باختلاف الأزمنة (إذ حدثت البدع) من المبتدعة (الصارفة عن مقتضى نص القرءان والسنة) ومقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ولا يكون ملفوظاً لكن يكون من ضرورة اللفظ (ونبغت) أي ظهرت (جماعة لفقوا) أي جمعوا (لها) لتلك البدع (شبهاً) وإيرادات (ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً) يقرؤه الناس (فصار ذلك المحذور) أي الممنوع منه (بحكم الضرورة) والاحتياج (مأذوناً) بالتكلم (فيه) تعلماً وتعليماً (بل صار) القدر المحتاج إليه (من فروض الكفايات) وقال السبكي ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدع إليه الحاجة أولى والكلام فيه عند فقد الحاجة بدعة وحيث دعت إليه الحاجة فلا بأس به (وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة) أي دعاء الناس (إلى البدعة) وحملهم عليها" اهـ.
وقال الشيخ شمس الدين الرملي الشافعي في شرح الزبد ما نصه (9) "التوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلاًّ منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به" اهـ. وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" ما نصه (10) "قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك" اهـ.
وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (11) (فإن قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدع) ورد شبهة (والآن فقد ثارت البدع) وهاجت (وعمت البلوى) الناس (وأرهقت الحاجة) أي دنت وقرب وقوعها (فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم) والتصدي له (من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال) وحفظها من النهاب (وسائر الحقوق) كذلك (وكالقضاء والولاية وغيرهما) من المناصب العامة والخاصة (وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك) وتعليمه (والتدريس فيه والبحث عنه) والتحقيق فيه (لا يدوم ولو ترك) الاشتغال به (لاندرس) بالمرة وانمحى أثره، ولقائل أن يقول لا يحتاج إلى نشره وتعليمه بل يكتفي منه في رد شبه المبتدعة بما ركز في الجبلة والطباع فأجاب بقوله (وليس في مجرد الطباع) ولو كانت سليمة (كفاية) تامة (لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم) ويدأب فيه لأن أكثر هذا العلم أمور دقيقة نظرية (فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضاً من فروض الكفايات) وهذا (بخلاف زمان لصحابة) رضوان الله تعالى عليهم (فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه) إما لعدم ظهور البدع في زمانهم أو لاكتفائهم بما أشرق الله من أنوار المشاهدة في صدورهم فكانت الأمور الخفية بالنسبة إلينا جلية عندهم (فاعلم أن الحق) الذي لا محيد عنه (أنه لا بد في كل بلد) من بلاد الإسلام (من قائم بهذا العلم) أي بإزائه (مستقل بدفع شبه المبتدعة الذين ثاروا في تلك البلدة) ونبغوا (وذلك يدوم بالتعليم) ويحفظ بالنشر والإفادة (ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم) أي على عامة الناس (كتدريس الفقه والتفسير) ولوازمهما (فإن هذا) أي علم الكلام (مثل الدواء) الذي لا يحتاج إليه في كل وقت وينتفع به ءاحاد الناس ويستضرُّ بِهِ الآخرون (والفقه مثل الغذاء) للأبدان الذي لا يستغنى عنه بحال في إقامة ناموس البدن (وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر) التي لا تحصى (فالعالم به ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من) وجدت (فيه ثلاث خصال إحداها التجرد للعلم) والاستعداد لطلب المعرفة (والحرص عليه) بالإكباب على درسه وتعلمه (فإن المحترف) أي المشتغل بالحرفة والصناعة (يمنعه الشغل) الذي هو فيه (عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت) لعدم استعداده لذلك (والثانية الذكاء) وهو سرعة الإدراك وحدَّة الفهم وقيل هو سرعة اقتراح النتائج (والفطنة) وهي سرعة هجوم على حقائق معان مما تورده الحواس عليها (والفصاحة) وهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود (فإن البليد) المتحير في أمره الذي لا يوصف بذكاء ولا فطنة (لا ينتفع بفهمه) بل هو دائماً حيران في أمره (والفَدْم) وهو البطيء الفهم (لا ينتفع بحجاجه) أي بمحاجته (فيخاف عليه من ضرر الكلام ولا يرجى فيه نفعه والثالثة أن يكون في طبعه الصلاح ) وهو ضد الفساد ويختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرءان تارة بالفساد وأخرى بالسيئة (والديانة) وهي التمسك بأمور الدين (والتقوى) وهي تجنب القبيح خوفاً من الله تعالى (ولا تكون الشهوات) النفسية (غالبة عليه) وفي معنى الشهوات التعصبات للمذاهب والمباهاة بالمعارف (فإن الفاسق بأدنى شبهة) إذا عرضت (ينخلع عن) ربقة (الدين فإن ذلك يحل عنه الحجز) أي الستر الحاجز (ويرفع الستر بينه وبين الملاذ) الشهوانية (فلا يحرص على إزالة الشبهة) ودفعها (بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف) ومشقاته (فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه) "اهـ.
قال الشيخ الفقيه تقي الدين السبكي "أكثر العلوم التي نحن نتبع وندأب فيها الليل والنهار حاصلة عندهم- أي عند الصحابة- بأصل الخلقة من اللغة والنحو والتصريف وأصول الفقه وما عندهم من العقول الراجحة وما أفاض الله عليها من نور النبوة العاصم من الخطإ في الفكر يغني عن المنطق وغيره من العلوم العقلية، وما ألّف الله بين قلوبهم حتى صاروا بنعمته إخواناً يغني عن الاستعداد في المناظرة والمجادلة فلم يكونوا يحتاجون في علمهم إلا إلى ما يسمعونه من النبي


...................................................................................................
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.
(2) سنن أبي داود: كتاب السنة، باب. شرح السُّنة.
(3) أي زعمهم أن الله يقعد محمداً إلى جنبه على العرش يوم القيامة، كما قال ابن تيمية في فتاويه وغيرها.
(4) إشارات المرام (ص/ 32 وما بعدها)، بتصرف لا يغير المعنى.
(5) تبيين كذب المفتري (ص/ 354- 355).
(6) في القاموس المحيط: مَرَنَ على الشيء مرونًا و مرانة: تعوَّده (ص/1592).
(7) الفتاوى الحديثية (ص/ 27).
(8) إتحاف السادة المتقين (1/ 175).
(9) غاية البيان (ص/ 20).
(10) شرح صحيح مسلم ( 6/154- 155).
(11) إتحاف السادة المتقين (2/ 62- 63).
(12) إتحاف السادة المتقين (1/ 177).