بيان نشأة علم الكلام وحكم تعلم علم الكلام   

 

كان الحجاز وما حوله من فلسطين والشام وبلاد الروم والعراق وأرض الفرس والهند وبلاد إفريقية ‏وما ‏والاها حين بُعث النبي على الشرك من عبادة الأوثان والأصنام والكواكب ‏وغير ‏ذلك، فقام سيدنا محمد بالدعوة إلى الإسلام وأقام الحجة لدعوته بحيث لا ‏يدع لمعاند ‏عذراً، وأيقظ العقول بطريقة لا تعلو عن مدارك العامة ولا يستنكرها الخاصة فدانوا له ‏تباعاً، وعلمهم ‏طريق التنزيه وفقههم في أبواب العمل ودربهم على الفضيلة والسجايا الكريمة فانتشرت ‏دعوته إلى جميع الآفاق فدانت الأمم بنور هدايته في مشارق الأرض ومغاربها. ‏وأمهات ما تلقت ‏الأمة من النبي هي العلم بالله وصفاته والعلم بالأحكام العملية ‏من عبادات ‏ومعاملات.‏ وقد كان أصحاب رسول الله يسألونه عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة، ‏ويسألونه ‏عن الباطل والشر للتمكن من المجانبة حتى قال حذيفة بن اليمان "كان الناس ‏يسألون ‏رسول الله عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني" رواه ‏البخاري (1)، ‏وإنما كان يفعله لتصح له مجانبته لأن من لم يعلم الشر يوشك أن يقع فيه كما قال ‏الشاعر:‏

 

عرفتُ الشرَّ لا للشرّ لكن لتوقيه **** ومن لا يعَرف الشر من الناس يقع فيه‏ ‏

 

وقد أخبر رسول الله أنه سيظهر في زمن الإسلام فرق مختلفة تخالف ما عليه ‏‏المتمسكون بالكتاب والسنة، فقال "إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ‏‏ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة"(2) رواه ابو داود.‏ فظهرت بعد وفاته فرق عديدة منها المعتزلة ويسمّون القدرية لإنكارهم القدر، ‏‏والجهمية ويسمّون الجبرية أتباع جهم بن صفوان يقولون إن العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له وإنما ‏هو ‏كالريشة المعلقة في الهواء يأخذها الهواء يمنة ويسرة، والخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي ‏رضي الله ‏عنه ويكفرون مرتكب المعصية الكبيرة، والمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب ‏بمعنى لا يعاقب ‏عصاة المؤمنين في الآخرة، والكرّامية الذين يقولون إن الله تقوم به الحوادث في ذاته ‏وأقواله ويقولون بأن ‏الله ليس له نهاية من الجهات الخمس وله نهاية من الأسفل، والمشبهة والمجسمة -‏أسلاف الطائفة المسماة ‏بالوهابية في يومنا هذا- الذين يتقوّلون في الله ما لا يجوّزه الشرع ولا العقل ‏من إثبات الحركة له والنقلة ‏والحد والجهة والقعود والإقعاد (3) والاستلقاء والاستقرار إلى نحوها مما ‏تلقوه بالقبول من دجاجلة ‏الملبسين من الثنوية وعباد الأوثان ومما ورثوه من أمم قد خلت، ويؤلفون ‏في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة في ‏أهل السنة ويتسترون بالسلف مستغلين ما ينقل عن بعض السلف ‏من الأقوال المجملة التي لا حجة فيها، ‏نعم لهم سلف ولكن من غير هذه الأمة وهم على سنة ضلالة ‏ولكن على من سنها الأوزار إلى يوم ‏القيامة.‏ ‏

 

وكان أناس يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة والملاحدة والثنوية ‏من ‏الفرس حتى أستفحل أمرهم، فأمر المهدي العلماء من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على ‏هؤلاء ‏فأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وأوضحوا الحق وخدموا الدين. وكان لخصماء الدين من ‏الأسلحة ما لا ‏يمكن مقابلته إلا بمثل أسنتهم، وجروا مع المسلمين على طريق التدرج في مراحل ‏العداء، فلو تُرك الأمر ‏وشأنه لكاد أن تتسرب شكوكهم إلى قلوب جماعة المسلمين فيطم الخطب.‏ قال الإمام أبو حنيفة ممزوجاً بكلام الشارح البياضي (4) "(وأصحاب رسول الله إنما لم يدخلوا فيه) أي فيما فيه اختلاف الأمة من الاعتقادات (لأن مثلهم) بإفنائهم ‏الزائغين ‏بعد كشف شبههم لإصرارهم في اللجاج لم يحوج إلى التوغل في الاحتجاج، وصار مثلهم فيه ‏وحالهم ‏‏(كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم) ويبرز لهم (فلا يتكلفون) ولا يظهرون الكلفة والمشقة في ‏تعاطيهم ‏‏(السلاح) لدفع من لم يقاتلهم" اهـ، ثم قال "(ونحن قد ابتلينا) في عصرنا (بمن يطعن) ‏في ‏الاعتقاديات (علينا) من أهل البدع والأهواء (ويستحلّ الدماء منا) ويستطيلون علينا لشيوع ‏بدعتهم، ‏ونصرة بعض ملوك السوء لهم كيزيد بن الوليد ومروان بن محمد من الأموية كما في تاريخ ‏الخلفاء ‏للسيوطي وغيره. (فلا يسعنا أن لا نعلم) بإقامة البراهين اليقينية (من المخطئ منا) أي من ‏المتخالفين (ومن ‏المصيب، وأن لا نذب) ونمنع المخالفين بإقامة الحجج عليهم وإبطال نحلهم (عن) ‏الاستطالة على (أنفسنا ‏وحرمنا، فقد ابتلينا" بمن يقاتلنا) من أهل الأهواء بإظهار الشبه والإغراء الذي ‏هو القتال المعنوي (فلا بد ‏لنا) في دفعهم وإزالة شبههم (من) إقامة الحجج الساطعة والبراهين القاطعة ‏التي في معنى (السلاح) فقد ‏أشار إلى أن البحث فيه والمحاجة صارت من الفروض على الكفاية دون ‏البدع المنهية، وصرّح به في ‏‏"الملتقط " "والتتار خانية"اهـ.‏

 

ففي مثل هذه الظروف الحرجة غار الإمام أبو الحسن الأشعري على ما حل بالمسلمين من ضروب ‏‏النكال وقام لنصرة السنة وقمع البدعة فوفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وقمع ‏المعاندين ‏وكسر تطرفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها فطبق في ذِكره الآفاق ‏وملأ الدنيا ‏بكتبه وكتب أصحابه في السنة والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة، وتفرق أصحابه في ‏بلاد العراق ‏وخراسان والشام وبلاد المغرب ومضى لسبيله وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض ‏قوتهم في عهد بني ‏بويه لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ‏ودانت السنة على الطريقة ‏الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية. وقد بعث ابن الباقلاني في ‏جملة من بعث من أصحابه إلى ‏البلاد أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى ‏قيروان وبلاد المغرب فدان له أهل ‏العلم من أئمة المغاربة وانتشر إلى صقلية والأندلس، وقام بنشر ‏المذهب في الحجاز راوي الجامع الصحيح ‏الحافظ أبو ذر الهروي وأخذ عنه من ارتحل إليه من علماء ‏الآفاق.‏

 

وفي كلام المتقدمين من المتكلمين ما ينبغي أن يسترشد به القائمون بالدفاع عن الدين في كل عصر، ‏ومن ‏البيّن أن طرق الدفاع عن عقائد الإسلام ووسائل الوقاية عن تسرب الفساد إلى الأخلاق ‏والأحكام مما ‏يتجدد في كل عصر بتجدد أساليب الأخصام وهي في نفسها ثابتة عند ما حده الشرع ‏لا تتبدل حقائقها، ‏فيجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة لتتبع الآراء ‏السائدة في طوائف البشر ‏والعلوم المنتشرة بينهم وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر للمسلمين ‏لا سيما في المعتقد الذي لا ‏يزال ينبوع كل خير ما دام راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن ‏استحال واهناً واهياً، فيدرسون هذه ‏الآراء والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما ‏يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء ‏الدين بوسائط عصرية حتى إذا فوَّق متقصد سهاما منها نحو ‏التعاليم الاسلامية من المعتقد وأحكام ردوها ‏الى نحره ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن ‏يجدوا سبيلاً إلى مراتع خصبة بين المسلمين تنبت ‏فيها بذور تلبيساتهم بحيث يصعب اجتثاث عروقها ‏الفوضوية بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية ‏تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل وقانا الله شر ‏ذلك.‏ فتبين من ذلك أن نشأة علم الكلام كان ضرورة للرد على أهل البدع من المعتزلة والمجسمة وغيرهما ‏من ‏الفرق الضالة، وللرد على الفلاسفة والملاحدة والمخالفين لأهل الحق في المعتقد.‏

 

قال (5) القاضي أبو المعالي بن عبد الملك "من اعتقد أن السلف الصالح رضي الله عنهم نهوا عن ‏معرفة ‏الأصول وتجنبوها أو تغافلوا عنها وأهملوها فقد اعتقد فيهم عجزاً وأساء بهم ظنّاً لأنه يستحيل ‏في العقل ‏والدين عند كل من أنصف من نفسه أن الواحد منهم يتكلم في مسئلة العول وقضايا الجد ‏وكمية الحدود ‏وكيفية القصاص بفصول ويباهل عليها ويلاعن ويجافي فيها ويبالغ ويذكر في إزالة ‏النجاسات عشرين ‏دليلاً لنفسه وللمخالف ويشقق الشعر في النظر فيها ثم لا يعرف ربه الآمر خلْقَه ‏بالتحليل والتحريم ‏والمكلّف عباده للترك والتعظيم فهيهات أن يكون ذلك، وإنما أهملوا تحرير أدلته ‏وإقرار أسئلته وأجوبته فإن ‏الله سبحانه وتعالى بعث نبينا محمداً صلوات الله عليه وسلامه فأيده ‏بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة ‏حتى أوضح الشريعة وبيَّنها وعلَّمهم مواقيتها وعينها فلم يترك لهم ‏أصلاً من الأصول إلا بناه وشيده ولا ‏حكماً من الأحكام إلا أوضحه ومهده لقوله سبحانه وتعالى ‏‏(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ ‏إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44} [سورة النحل]، فاطمأنت ‏قلوب الصحابة لما عاينوا من عجائب الرسول ‏وشاهدوا من صدق التنزيل ببدائة العقول والشريعة ‏غضة طرية متداولة بينهم في مواسمهم ومجالسهم ‏يعرفون التوحيد مشاهدة بالوحي والسماع ‏ويتكلمون في أدلة الوحدانية بالطباع مستغنين عن تحرير أدلتها ‏وتقويم حجتها وعللها، كما أنهم كانوا ‏يعرفون تفسير القرءان ومعاني الشعر والبيان وترتيب النحو ‏والعروض وفتاوى النوافل والفروض من ‏غير تحرير العلة ولا تقويم الأدلة. ثم لما انقرضت أيامهم وتغيرت ‏طباع مَن بعدهم وكلامهم وخالطهم ‏من غير جنسهم وطال بالسلف الصالح والعرب العرباء عهدهم ‏أشكل عليهم تفسير القرءان ومَرَن ‏‏(6) عليهم غلط اللسان وكثر المخالفون في الأصول والفروع ‏واضطروا إلى جمع العروض والنحو ‏وتمييز المراسيل من المسانيد والآحاد من التواتر وصنفوا التفسير ‏والتعليق وبينوا التدقيق والتحقيق، ولم ‏يقل قائل إن هذه كلها بدع ظهرت أو أنها محالات جمعت ودونت ‏بل هو الشرع الصحيح والرأي ‏الصريح، وكذلك هذه الطائفة كثّر الله عدَدهم وقوى عُدَدهم، بل هذه ‏العلوم أولى بجمعها لحرمة ‏معلومها فإن مراتب العلوم تترتب على حسب معلوماتها والصنائع تكرم على ‏قدر مصنوعاتها، فهي ‏من فرائض الأعيان وغيرها إما من فرائض الكفايات أو كالمندوب والمستحب، فإن ‏من جهل صفة من ‏صفات معلومه لم يعرف المعلوم على ما هو به، ومن لم يعرف البارىء سبحانه على ما ‏هو به لم ‏يستحق اسم الإيمان ولا الخروج يوم القيامة من النيران" اهـ.‏

 

قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه "الفتاوى الحديثية" ما نصه (7) "الذي صرّح به أئمتنا أنه ‏يجب ‏على كل أحد وجوباً عينيّاً أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين ‏أهل ‏الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية ‏والقيام بها ‏للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها ‏على تعلم ما ‏يتعلق بها من علم الكلام أو ءالاته فيجب عيناً على من تأهل لذلك تعلمه للرد على ‏المخالفين" اهـ.‏ وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (8) ‏‏"‏‏(ولم يكن شئ منه- أي علم الكلام - مألوفاً في العصر الأول) عند الصحابة والتابعين (فكان ‏الخوض ‏فيه بالكلية من البدع) والمنكرات (ولكن تغير الآن حكمه) باختلاف الأزمنة (إذ حدثت ‏البدع) من ‏المبتدعة (الصارفة عن مقتضى نص القرءان والسنة) ومقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ‏ولا يكون ‏ملفوظاً لكن يكون من ضرورة اللفظ (ونبغت) أي ظهرت (جماعة لفقوا) أي جمعوا (لها) ‏لتلك البدع ‏‏(شبهاً) وإيرادات (ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً) يقرؤه الناس (فصار ذلك المحذور) أي ‏الممنوع منه (بحكم ‏الضرورة) والاحتياج (مأذوناً) بالتكلم (فيه) تعلماً وتعليماً (بل صار) القدر ‏المحتاج إليه (من فروض ‏الكفايات) وقال السبكي ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدع إليه الحاجة ‏أولى والكلام فيه عند فقد ‏الحاجة بدعة وحيث دعت إليه الحاجة فلا بأس به (وهو القدر الذي يقابل ‏به المبتدع إذا قصد الدعوة) ‏أي دعاء الناس (إلى البدعة) وحملهم عليها" اهـ.‏

 

وقال الشيخ شمس الدين الرملي الشافعي في شرح الزبد ما نصه (9) "التوغل في علم الكلام بحيث ‏‏يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلاًّ منهم فعله، فكل ‏‏منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل ‏من ‏لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به" اهـ.‏ وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" ما نصه (10) "قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ‏ومندوبة ‏ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين ‏وشبه ذلك‏‏" اهـ.‏

 

وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (11) (فإن ‏‏قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدع) ورد شبهة (والآن فقد ثارت البدع) وهاجت ‏‏(وعمت ‏البلوى) الناس (وأرهقت الحاجة) أي دنت وقرب وقوعها (فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم) ‏والتصدي له ‏‏(من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال) وحفظها من النهاب (وسائر الحقوق) ‏كذلك (وكالقضاء ‏والولاية وغيرهما) من المناصب العامة والخاصة (وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك) ‏وتعليمه (والتدريس فيه ‏والبحث عنه) والتحقيق فيه (لا يدوم ولو ترك) الاشتغال به (لاندرس) بالمرة ‏وانمحى أثره، ولقائل أن ‏يقول لا يحتاج إلى نشره وتعليمه بل يكتفي منه في رد شبه المبتدعة بما ركز ‏في الجبلة والطباع فأجاب ‏بقوله (وليس في مجرد الطباع) ولو كانت سليمة (كفاية) تامة (لحل شبه ‏المبتدعة ما لم يتعلم) ويدأب فيه ‏لأن أكثر هذا العلم أمور دقيقة نظرية (فينبغي أن يكون التدريس فيه ‏والبحث عنه أيضاً من فروض ‏الكفايات) وهذا (بخلاف زمان لصحابة) رضوان الله تعالى عليهم (فإن ‏الحاجة ما كانت ماسة إليه) إما ‏لعدم ظهور البدع في زمانهم أو لاكتفائهم بما أشرق الله من أنوار ‏المشاهدة في صدورهم فكانت الأمور ‏الخفية بالنسبة إلينا جلية عندهم (فاعلم أن الحق) الذي لا محيد ‏عنه (أنه لا بد في كل بلد) من بلاد ‏الإسلام (من قائم بهذا العلم) أي بإزائه (مستقل بدفع شبه ‏المبتدعة الذين ثاروا في تلك البلدة) ونبغوا ‏‏(وذلك يدوم بالتعليم) ويحفظ بالنشر والإفادة (ولكن ليس ‏من الصواب تدريسه على العموم) أي على ‏عامة الناس (كتدريس الفقه والتفسير) ولوازمهما (فإن ‏هذا) أي علم الكلام (مثل الدواء) الذي لا يحتاج ‏إليه في كل وقت وينتفع به ءاحاد الناس ويستضرُّ بِهِ ‏الآخرون (والفقه مثل الغذاء) للأبدان الذي لا ‏يستغنى عنه بحال في إقامة ناموس البدن (وضرر الغذاء ‏لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من ‏أنواع الضرر) التي لا تحصى (فالعالم به ينبغي أن ‏يخصص بتعليم هذا العلم من) وجدت (فيه ثلاث خصال ‏إحداها التجرد للعلم) والاستعداد لطلب ‏المعرفة (والحرص عليه) بالإكباب على درسه وتعلمه (فإن ‏المحترف) أي المشتغل بالحرفة والصناعة ‏‏(يمنعه الشغل) الذي هو فيه (عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا ‏عرضت) لعدم استعداده لذلك (والثانية ‏الذكاء) وهو سرعة الإدراك وحدَّة الفهم وقيل هو سرعة اقتراح ‏النتائج (والفطنة) وهي سرعة هجوم ‏على حقائق معان مما تورده الحواس عليها (والفصاحة) وهي ملكة ‏يقتدر بها على التعبير عن المقصود ‏‏(فإن البليد) المتحير في أمره الذي لا يوصف بذكاء ولا فطنة (لا ينتفع ‏بفهمه) بل هو دائماً حيران في ‏أمره (والفَدْم) وهو البطيء الفهم (لا ينتفع بحجاجه) أي بمحاجته (فيخاف ‏عليه من ضرر الكلام ولا ‏يرجى فيه نفعه والثالثة أن يكون في طبعه الصلاح ) وهو ضد الفساد ويختصان ‏في أكثر الاستعمال ‏بالأفعال وقوبل في القرءان تارة بالفساد وأخرى بالسيئة (والديانة) وهي التمسك ‏بأمور الدين ‏‏(والتقوى) وهي تجنب القبيح خوفاً من الله تعالى (ولا تكون الشهوات) النفسية (غالبة عليه) ‏وفي ‏معنى الشهوات التعصبات للمذاهب والمباهاة بالمعارف (فإن الفاسق بأدنى شبهة) إذا عرضت (ينخلع ‏‏عن) ربقة (الدين فإن ذلك يحل عنه الحجز) أي الستر الحاجز (ويرفع الستر بينه وبين الملاذ) الشهوانية ‏‏‏(فلا يحرص على إزالة الشبهة) ودفعها (بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف) ومشقاته (فيكون ما ‏‏يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه) "اهـ.‏

 

قال الشيخ الفقيه تقي الدين السبكي "أكثر العلوم التي نحن نتبع وندأب فيها الليل والنهار حاصلة ‏‏عندهم- أي عند الصحابة- بأصل الخلقة من اللغة والنحو والتصريف وأصول الفقه وما عندهم من ‏‏العقول الراجحة وما أفاض الله عليها من نور النبوة العاصم من الخطإ في الفكر يغني عن المنطق وغيره ‏من ‏العلوم العقلية، وما ألّف الله بين قلوبهم حتى صاروا بنعمته إخواناً يغني عن الاستعداد في المناظرة ‏والمجادلة ‏فلم يكونوا يحتاجون في علمهم إلا إلى ما يسمعونه من النبي من الكتاب ‏والسنة ‏فيفهمونه أحسن فهم ويحملونه على أحسن محمل وينزلونه منزلته، وليس بينهم من يماري فيه ‏ولا يجادل ‏ولا بدعة ولا ضلالة، ثم التابعون على منوالهم قريباً منهم ثم أتباعهم وهم القرون الثلاثة التي ‏شهد النبي ‏ بأنها خير القرون بعده، ثم نشأ بعدهم وربما في أثناء الثاني والثالث ‏أصحاب بدع ‏وضلالات فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا ‏يلبسوا على الضعفاء ‏أمر دينهم ولا يدخلوا في الدين ما ليس منه، ودخل في كلام أهل البدع من ‏كلام المنطقيين وغيرهم من ‏أهل الإلحاد شئ كثير ورتبوا عليها شبهّا كثيرة، فإن تركناهم وما ‏يصنعون استولوا على كثير من الضعفاء ‏وعوام المسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم فأضلوهم ‏وغيروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة ‏وانتشرت البدع والحوادث ولم يكن كل واحد يقاومهم ‏وقد لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به، وإنما يرد ‏على الكلام من يفهمه ومتى لم يرد عليه تعلو كلمته ‏ويعتقد الجاهلون والأمراء والملوك المستولون على ‏الرعية صحة كلام ذلك المبتدع كما اتفق في كثير ‏من الأعصار وقصرت همم الناس عما كان عليه ‏المتقدمون، فكان الواجب أن يكون في الناس من ‏يحفظ الله به عقائد عباده الصالحين ويدفع به شبه ‏الملحدين وأجره أعظم من أجر المجاهد بكثير وبه ‏يحفظ أمر بقية الناس وعبادات المتعبدين واشتغال الفقهاء ‏والمحدثين والمفسرين والمقرئين وانقطاع ‏الزاهدين:‏ لا يعرف الشوق إلا من يكابده.... ولا الصبابة إلا من يعانيها" ‏ انتهى كلام السبكي الذي نقلناه من شرح الإحياء (12) للحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي.‏

 

...................................................................................................

(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.‏ ‏

(2) سنن أبي داود: كتاب السنة، باب. شرح السُّنة.‏

(3) أي زعمهم أن الله يقعد محمداً إلى جنبه على العرش يوم القيامة، كما قال ابن تيمية في فتاويه ‏‏وغيرها.‏

(4) إشارات المرام (ص/ 32 وما بعدها)، بتصرف لا يغير المعنى.‏ ‏

(5) تبيين كذب المفتري (ص/ 354- 355).‏ ‏

(6) في القاموس المحيط: مَرَنَ على الشيء مرونًا و مرانة: تعوَّده (ص/1592).‏

(7) الفتاوى الحديثية (ص/ 27). ‏

(8) إتحاف السادة المتقين (1/ 175).‏ ‏

(9) غاية البيان (ص/ 20).‏

(10) شرح صحيح مسلم ( 6/154- 155).‏ ‏

(11) إتحاف السادة المتقين (2/ 62- 63).‏ ‏

(12) إتحاف السادة المتقين (1/ 177).‏