قال أهلُ الحَقِّ "إنَّ اللهَ تعالى وَسِعَ كُلَّ شيءٍ عِلْمًا، أي وَسِعَ عِلْمُهُ كلَّ شيء، وهو معنا بعِلمه، محيطٌ بكلِّ شيءٍ عِلْمًا، ولا يَغِيبُ عن علم الله شيء" ونحن نقولُ ما قاله أهلُ الحَقِّ ونردِّد ما ردَّدُوه. ولا يجوز القول: الله في كل مكان ولو كان القائل يفهم من هذه العبارة الفاسدة أن الله عالمٌ بكل شىء، وإليك الدليل على ذلك:
1- قال المتكلم ابن فورك الأشعري (604هـ) ما نصه :"اعلم أن الثلجي كان يذهب مذهب النجار في القول بأن الله في كل مكان وهو مذهب المعتزلة، وهذا التأويل عندنا منكر من أجل أنه لا يجوز أن يقال إن الله تعالى في مكان أو في كل مكان" اهـ.
2- ثم ردَّ ابن فورك على من أطلق هذه العبارة مريدًا بها أن الله عالم بكل شىء فقال ما نصه :"فمتى ما رجعوا في معنى إطلاق ذلك إلى العلم والتدبير كان معناهم صحيحًا واللفظ ممنوعًا، ألا ترى أنه لا يسوغ أن يقال إن الله تعالى مجاور لكل مكان أو مماس له أو حال أو متمكِّن فيه على معنى أنه عالم بذلك مدبرٌ له" اهـ.
3- قال الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي الأشعري (458هـ) ما نصه :"وفيما كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله سبحانه وتعالى بذاته في كل مكان، وقوله عز وجل {وهو معكم أين ما كنتم} [سورة الحديد/4] إنما أراد به بعلمه لا بذاته" اهـ.
4- قال الشيخ أبو حامد الغزالي الشافعي الأشعري (505هـ) في الرد على جهم بن صفوان أحد زعماء المبتدعة ما نصه :"ولا ترتبك في مواقع غلطه، فمنه غلط من قال: إنه في كل مكان. وكل من نسبه إلى مكان أو جهة فقد زلّ فضلّ، ورجع غاية نظره إلى التصرف في محسوسات البهائم، ولم يجاوز الأجسام وعلائقها. وأول درجات الإيمان مجاوزتها، فبه يصير الإنسان إنسانًا فضلاً عن أن يصير مؤمنًا" اهـ. وهذا صريح من الغزالي أنه لا يجوز القول الله في كل مكان، ومن نسب إلى الغزالي خلاف ذلك فقد افترى عليه، لذلك نبّه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي على كلمة تُنسب للغزالي وليست من كلامه فقال ما نصه :"تنبيه: ليحذر من كلمة في أبيات منسوبة للغزالي وليست له، وهي هذا الشطر :"وهو في كلِّ النّواحي لا يَزُول" فإنها مرادفة لقول المعتزلة الله بكل مكان. قال علي الخوّاص :"لا يجوز القول إنه تعالى بكل مكان" انتهى كلام الشيخ الهرري من كتابه "الدليل القويم على الصراط المستقيم" الذي بيّن فيه عقيدة أهل السنة والجماعة بالأدلة النقلية من القرءان والحديث والأدلة العقلية التي تدحض شبه الفلاسفة القائلين بأزلية نوع العالم، والمعتزلة والمرجئة، والمشبهة القائلين بجلوس الرب على العرش واستقراره عليه ونسبة المكان والجهة والجوارح له، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
5- وقال ابن كثير (744هـ) ما نصه :"اتفق المفسرون على إنكار قول الجهمية الأول القائلين (تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا) بأنه في كل مكان" اهـ.
6- وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي الأشعري (825هـ) ما نصه :"وقد نزع به بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان وهو جهل واضح، وفيه ـ أي في حديث: "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربَّه أو إن ربَّه بينه وبين القبلة ـ الرد على من زعم أنه على العرش بذاته" اهـ.
7- وذكر الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني (973هـ) أن عليًّا الخوّاص رضي الله عنهما قال :"لا يجوز أن يقال إنه تعالى في كل مكان كما تقول المعتزلة والقدرية" اهـ.
8- وقال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي ما نصه :"ثم المعتزلة وجمهور النجارية قالوا: إنه تعالى بكل مكان بالعلم والقدرة والتدبير دون الذات، وهذا باطلٌ لأن من يعلم مكانًا لا يقالُ إنه في ذلك المكان بالعلم، فما شاع عند بعض من ينتسب للتصوف من قول: إن الله تعالى بكل مكان لا يجوز، فقد نقل الشعرانيُّ عن علي الخواص أنه قال: لا يجوز أن يقال إنه تعالى بكل مكان، قال صاحب روح البيان في تفسيره: إنه قول جهلة المتصوفة. على أن أولئك ما قالوا: موجود بكل مكان، بل قالوا: إنه تعالى بكل مكان من دون أن يضيفوا كلمة موجود؛ وبيْن قول القائل: إن الله بكل مكان وقول القائل: إن الله موجود بكل مكان، فرقٌ كبير لأن كلمة موجود إثبات للتحيز في المكان صريح، اللهم إلا أن يكون بعض الأشخاص لا يفهمون من قولهم موجود التحيزَ، فهؤلاء ينظر في حالهم إن كانوا لا يعتقدون تحيز الذات في الأماكن فلا يكفرون، لكن كلامهم هذا كلام فاسد، أصله إلى المعتزلة والجهمية، فوضح أنّ الذي قالها بالباء أو بحرف في إن كان يفهم من هذه العبارة تحيز الذات القديم الأزلي المقدس في الأماكن كلها فهو كافر من أكفر الكفار، لأنه إذا كان الذي يعتقد أن الله متحيز بمكان واحد كالعرش كافرًا لأنه أثبت لله المشابهة لخلقه وذلك لأن فوق العرش كتابًا كتب الله فيه إن رحمتي تغلب غضبي ـ رواه البخاري وابن حبان ـ فلو كان الله متحيزًا فوق العرش لكان ذلك الكتاب مثلا لله، وكذلك اللوح المحفوظ على القول بأنه فوق العرش. فتبين بطلان ظن المشبّهة أن كون الله فوق العرش تنزيه له عن المثل، فكيف الذي يعتقد في الله التحيز في كل مكان فقد جعله منتشرًا منبثًّا في الأماكن النظيفة والأماكن القذرة، لكن هؤلاء العوام حالُهم يدل على أنهم لا يقصدون التحيز إنما يقصدون أنه تعالى محيط بخلقه قدرة وعلمًا، إلا أن بعضهم يعتقد ذلك الاعتقاد الفاسد وهو أن ذاته منتشر" اهـ.
تحذير: اشتد النكير على المعتزلة والجهمية القائلين بهذه الكلمة الفاسدة كما سبق نقلنا لذلك، وهذا الانحراف في العقيدة عند هؤلاء المبتدعة المعتزلة والجهمية نجده عند سيد قطب في مؤلَّفه الذي فسر فيه القرءان على زعمه حيث قال في تفسير قوله تعالى {وهو معكم أين ما كنتم} [سورة الحديد/4] ما نصه "وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز. فالله سبحانه مع كل أحد ومع كل شىء، في كل وقت وفي كل مكان" اهـ.
فالعجب من هؤلاء الجماعات التي تدافع عن سيد قطب وتصفه بالمفكر الإسلامي تارة وبالمفسّر تارة أخرى، مع جهله بعقيدة أهل السنة والجماعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.